شوهد الفيلسوف اليوناني ديوجيتين يحمل مصباحا في ضوء الشمس فلما سُؤل عما تبحث ؟؟ نظر إلي السماء و أطرق مليا
و شرد ذهنه ثم قال قولته الشهيرة أبحث عن الرجال
و لو كان بيننا اليوم لأحتاج لكل مصابيح الدنيا ليستعين بها بحثا عن الرجال
و الواقع أن المدنية قد انتهت إلي إقرار ظاهرة تبدل الأخلاق
بتبدل الحياة فمن كان صالحا نقيا علي الفقر و العوز و الاملاق ثم أصبح موسرا جاز له أن يكون شقيا فاجرا علي الغني
و أن يسمح لفجوره أن يطغي و أن يتعدي كل حد و أن يهدر أية قيمة و أن يفسد أي حياة من أجل ذلك كان بقاء البشرية و استمرارها و صلاح حالها رهين بثبات الأخلاق و وجوب تربية الأنفس و تنشئتها علي ذلك و جعلها كقيمة في حراسة المجتمع إذ لابد من ضبط كل شئ بحيث لايبقي أمر إلا وراءه تقدير ولا تقدير الا له حكمة ولا حكمة الا فيها مصلحة
و بذلك النظر فإن علينا أن نتسامي
فلا نقبل من المدنية إلا محاسنها ولا نأخذ سيئاتها في حسناتها و حماقاتها في حكمها و زيفها في حقيقتها
و غثها في ثمينها فلا نأخذ إلا النافع الذي يتناسب مع أحوالنا
ثم لا ندع أو نأخذ إلا علي الاصول الجامعة و ما تعارفنا عليه
في آدابنا و أخلاقنا و عاداتنا ولا مراء أن الإيمان بالاخلاق إنما يورث بشاشة الروح و يبعث في النفوس و القلوب الرضا و الثقة
و بهما يصبح الإيمان بالخلق و مع الخلق بعثا آخر للنفس و الروح و عقلا إضافيا ثانيا للعقل
و هنا تبرز قوة الروح حين يفيق العقل الأول فيتلاحيان
فيزيح الاقوي منهما الأضعف و يخرج الأعز منهما الأذل
و غني عن البيان أن الله تعالي إذا أراد لواحد من الناس أن
_يكتبه عنده من الرجال_
فلا يعطيه شيئا هو خير من أن يسلك في قلبه اليقين و الصدق
_ و عند الله مفاتيح القلوب _
فإذا أراد الله بعبد "كتبه عنده من الرجال" خيرا فتح له قفل قلبه
فجعل في قلبه الايمان و اليقين و الصدق و جعل قلبه سليما
و لسانه صادقا و خليقته مستقيمة و أذنه سميعة و عينه بصيرة
فيخوض الغمار و هو قوي النفس عظيم الخلق فلا تراه إلا و في ركابه الخير العميم و العطاء الدائم و النفع الجزيل لدينه و أهله و وطنه يترك بصمة تدل عليه في كل ميادين الخير
فهو لكونه رجلا و لكونه صاحب خلق فهو غيث أينما وقع
انتفع الناس به و استبشروا به خيرا فهو رمز من رموز المرحمة ينشر الحب و الجمال و يحارب القبح و الظلام
و يضع كل يوم لبنه في بناء صرح أشم تحوطه الأخلاق يصل بينه و بين خالقه من جهة و بينه و بين الناس من جهة أخري
لا تثنيه الظروف عن اقتحام ميادين العمل و ساحات الوغي
و لم لا ؟؟ فهو صاحب رسالة تشبعت نفسه و رجولته بروح الخير و المحبة كشجرة عتيقة أصلها ثابت و فرعها في السماء
تؤتي أكلها فتفيض علي الناس أملاً و خيراً و نفعا عميقا تراه يملك الوجدان بخطابه إذا تحدث فهو لطيف القول دقيق الإحساس لطيف المنزع و هو رسول محبة و داعية سلام
نزهته الرجولة و الأخلاق عما في أيدي هتكعن المظالم و الاخذين علي الاالحرمات فهو ههل لكل مكرمة يصل من قطعه و يعطي من حرمه
و يعفو عمن ظلمه و يبذل الخير و حسن الأدب و هو لين القلب و العمل و ذلك ما يوجب الألفة فمن لانت كلمته
وجبت محبته و حسنت أحدوثته و ظمأت القلوب للقائه
و تنافست في مودته و صدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ صرح
" أن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد
و أن الخلق السئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل"
من أجل ذلك فالرجل صاحب الخلق ينهاه خلقه عن التباغض و التحاسد و الكذب و الكبر و البخل و انتهاك الحرمات
و جحد الحقوق و أكل الأموال بالباطل لأنها قيم فاسدة تنهدم
بها المجتمعات و تندثر بها الأمم و تزول الحضارات فلا تراه يوما يدحض
بباطله حقا فهو يوقن أن من فعل فقد برءت منه ذمة الله و رسوله و لن تجده يوما يغشي مجالس السفهاء ولا يركن إلي الظالمين فقد ارتفعت به أخلاقه و رجولته إلي قمة شماء
تنخلع لذراها الرقاب ثم هو حيث تكون المواقف
أسدا هصورا لا يعرف الشيطان إلي قلبه و عقله سبيلا ولا يهبط به إلي مهاوي النذالة و الجحود
فهو في معية الله لا تنال منه عاديات الدهر ولا يميل إذا ما الامر مال و لا يخون العهود ولا تنال منه عواصف الغدر ولا أعاصيره ولا يتخلي عمن لجأ إليه و إستجار به و هكذا شيم الرجال ألا تري أن الله تعالى قد فرق في خطابه الجليل
بين الرجال و الذكور ففي المواريث قال تعالي
"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"
لكنه في حديثه عن القوامة قال تعالي
"الرجال قوامون علي النساء"
فليس كل ذكر بالضرورة رجلا و ذلك حكم الله
فالرجولية رداء لا يعطيه الله إلا من أحب و إلا من استوفي شروطه فالرجل هو ذلك الكائن المكرم الذي أسبغ الله عليه وصف الرجولة و صبغه به
و هو الذي يحمل بين دفتي نفسه ثبات الأطواد الراسيات
و الصروح العاليات من قيم و أخلاق و مبادئ و مواقف تكشف عن معادن الرجال التي لا تزيدها الأيام إلا قيمة
ولا تزيدها الشدائد الا قوة شكيمة ألا تري أنها لو ألقيت في النار بان ضياؤها و زاد وهجها و اشتد لمعانها فهكذا الرجولة إذا ما التحفت بالاخلاق لا ينطفئ بريقها ولا تزداد علي الدهر الا جمالا و جلالا و بريقا
و الرجل صاحب الخلق ينأى بنفسه عن مواطن الزلل و عن ساحات البغي و مجالس الهوي
فقد انقذته أخلاقه و رجولته من ذلة الشقاء و خلعت عليه لباس العزة و الكرامة
فكانت له رداء و حجابا من النار
فالحبيب المصطفي يقول
"و الله لا يلقي الله حبيبه في النار" *صحيح الجامع 6/104*
و هو بهذا الوصف أبعد الناس عن الخيانة و الظلم و الشح
فهذا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
ما فتئ ينادي في أذن الزمان
"إياكم و الخيانة فإنها بئست البطانة و إياكم و الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة و إياكم و الشح فإنه أهلك من كان قبلكم
قطعوا به أراحمهم و سفكوا به دمائهم
و هو أبعد الناس عن الفاحشة فأخلاقه و رجولته ترتفعان به عن الدنايا فيحلق في سماوات الفضيلة
و هو ما يجعل الناس تهفو للقائه و تتنافس في مودته و ليس أعظم من أن الله الجليل قد سبقت كلمته لمن حسن خلقه
أن يظله تحت العرش و أن يسقيه من حظيرة قدسه
و أن يدنيه من جواره
و أيما أمة تمسكت بذلك علت رايتها و أضحت مكللة بالفخار
و ان هي تخلت عنها صارت إلي زوال
ذلك أن الله تعالي لم يؤت أحدا شيئا هو شر من أن يسلك في قلبه الريبة و يجعل عينه شرهة مشرفة متطلعة لا ينفعه المال و ان كثر
و غلق الله القفل علي قلبه فجعله ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
فاللهم انا نعوذ بك من الشقاق و النفاق و سوء الاخلاق
اللهم أظلنا تحت عرشك و إسقنا من حظيرة قدسك و أدننا من جوارك و ارفع عنا البلايا و الأسقام و ادفع عنا كل مكروه و سوء و ارفع راية مصر عالية خفاقة تناطح الجوزاء و تزاحم الشمس في الجلاء و أمدنا بجند من جندك و بروح من عندك يا خير من سؤل و أجود من أعطي و أكرم من عفا و أعظم من غفر و أعدل من حكم و أوفي من وعد و أبصر من راقب و أحسن من خلق و أحكم من شرع و أحق من عبد و أولي من دعي و أبر من أجاب
تعليقات: 0
إرسال تعليق